كلمة رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في افتتاح أشغال الدورة الأكاديمية حول “الشعر في منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي”

14 فبراير 2025


باسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وأله وصحبه

 السيد رئيس وأعضاء بيت الشعر في المغرب ،

 السيدات والسادة أعضاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي،

 السيدات والسادة أعضاء هذه الندوة الوطنية،

 

أيها الحضور الكرام،

يسعدني أن أفتتح هذه الندوة الوطنية النوعية التي ننظمها بشراكة مع مؤسسة بيت الشعر في المغرب، في موضوع حيوي يتصل بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ويتعلق الأمر تحديدا بكيفيات ومسوغات تدريس الشعر وقراءته وتقديمه وتمثله، وما يمثله الشعر، سواء كنصوص أو كمعرفة نظرية منهجية، أو كامتدادات شعرية، في القيم الإنسانية والحضارية والجمالية والأدبية والثقافية.

ونحن نعي ما يضمره الشعر وتدريسه اليوم من تصورات وأبعاد كونية، ومن إمكانات وقدرات على زرع القيم الإنسانية النبيلة، والانفتاح على اللغات ولغات الكتابة الشعرية في العالم. وأنا أتفهم شخصيا مدى قلق الشعراء المغاربة، ومعظمهم –بالمناسبة– من أسرتنا التربوية والتعليمية، على مصير الشعر في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، على المستوى المادي والتقني والعلمي، ومدى حاجتهم وحاجتنا جميعا، في الحقيقة، إلى توازنات روحية وأدبية تثري وجودنا وعلاقاتنا وخطاباتنا وأفكارنا ومشاريعنا المستقبلية.

وبدون شك، فإن مثل هذا الحوار المعرفي حول الشعر ومنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي بالنسبة إلينا في المجلس الأعلى، يأتي ليؤكد على أهمية الانفتاح على مكونات وهيئات المجتمع المدني ذات الصلة باهتمامات مجلسنا، باعتباره مؤسسة حكامة دستورية استشارية وطنية.

 

أيها الحضور الكريم،

ينبغي ألا ننسى أن بيت الشعر في المغرب هو الذي اقترح على منظمةالتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) إقرار يوم عالمي للشعر، ذلك الاقتراح الذي تبنته وساندته الحكومة المغربية، وقبلته المنظمة الأممية الدولية بعد أن دعمته منظمات ومهرجانات عالمية تهتم بالشعر في العالم. وتمكن هذا البيت الرمزي لشاعرات وشعراء المغرب أن يكتسب مصداقية في برامجه وأنشطته ومنشوراته ومقترحاته، ويصبح مؤسسة جادة في المخاطبة والتواصل والالتزام.

وينبغي ألا ننسى أيضا، أن هذه الندوة الوطنية تستجيب للتصور الاستراتيجي الذي نمتلكه في هذا المجلس، والذي يحركنا في كافة ما نقوم به، وما ننتج من استشارات وخطابات وأفكار وإصدارات، وما ننظمه من لقاءات للحوار والإنصات، أو لتعميق النظر في مختلف القضايا التي تندرج ضمن مهام المجلس الدستورية.

ومن المؤكد، أن هناك أفقا رحبا يكتسي طابعا استراتيجيا في سيرورة عمل المجلس الأعلى، وهو المتعلم(ة)، الذي نتطلع إلى بنائه، ذلك الكائن الصانع للحياة، العاقل، الحالم، الذي يفكر ويبدع ويتخيل الأشكال والأفكار والقيم والمعنى والصور والدلالات. وهذا ما تحاول بعض التصورات التقنوية، عبر أنواع من النمذجة الإحصائية أو الصياغات الأداتية التقنية، التقليل من قيمته، والتشكيك المبالغ في كل ما هو أدبي وفلسفي وجمالي، ولكل ما له علاقة بالكينونة عموما.

إن هاجس المنظومة التربوية والتعليمية بالأساس هو الاشتغال على المتعلم في كافة أبعاده. صحيح أن المنهاج التعليمي يتصور أن هذا الإنسان المنشود ينبغي تلقينه آليات الكتابة والقراءة والحساب، وهي نمذجة تظل تتعمق تدريجيا نحو أن نقرأ ماذا؟ أن نكتب ماذا؟ وكيف؟ بأي تصور؟ بأي فلسفة؟ بأي قاعدة حضارية وثقافية ولغوية وطنية؟

وهكذا، لا ينبغي أن نراهن فقط على نموذج المتعلم(ة) الذي ينبغي أن ينجح فقط في الرياضيات والعلوم التجريبية والتقنيات، وذلك من حيث التملك الذاتي للغة، وللثقافة، وللمجتمع، وللهوية، ولما يبقي على الطابع الذاتي في الإبداع، وذلك لنحصل على إنسان يبدع النصوص والأفكار ولا يكررها.

بهذا الأفق المفتوح على المعارف، على الخبرات الإنسانية، وعلى القيم الكونية يتجنب تلامذتنا وطلابنا مستوى التكرار في المعلومات والمعطيات والأفكار، إلى مستويات الاختلاف والمغايرة.

أجل، على تعليمنا أن يكون منذورا لإنتاج العلماء والأطباء والمهندسين والتقنيين المتخصصين، وكل الأطر الفكرية والإدارية والاقتصادية التي تحتاجها الدولة العصرية ونظامها الإنتاجي مثلا، لكن ينبغي أن نعلمهم كيف يحتفظون في مكتباتهم بكتب شعرية وأدبية وفكرية وروحية، وبلوحات تشكيلية، وبتسجيلات سينمائية تضاعف المعنى لديهم، وتجعلهم ينفتحون على أنفسهم ومحيطهم، وعلى الآخرين.

بهذا الأفق أيضا، نمكنهم من أن يتملكوا نعمة التعبير الكتابي واللغوي، نعمة السفر إلى العالم، إلى الحضارات والثقافات واللغات والنماذج المجتمعية الفضلى. وهذا معنى أن نمكن الأجيال الجديدة المتلاحقة من آليات المواطنة الحقيقية التي ما انفك يدعو إليها، ويوصي بها صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله في عدة خطب ورسائل سامية، وأيضا ما تنجزه منظومة التربية والتكوين في اتجاه إنتاج وإعادة إنتاج الإنسان المغربي الجديد كما هو محدد في المنهاج الوطني لملامح التخرج استنادا إلى مقتضيات الدستور، وتمثلا لتاريخ المغرب، ومكاسب الثقافة والحضارة المغربيتين، وبالخصوص قيم الشريعة الإسلامية السمحاء، وقيم المواطنة، ومبادئ حقوق الإنسان.

 

أيها الحضور الكريم،

إن معنى هذا كله أن مبدأ الفعالية الذي يحكم منظومتنا التربوية التعليمية، لا ينبغي أن نفهمه خطأ بالمعنى التقني المطلق. كما لا ينبغي أن نفكر في الشعر كشعر في حد ذاته ومن أجل ذاته، إنما أن نفكر فيه في وضعية منهاجية عامة بمختلف مكوناتها العلمية والتقنية والفنية والفلسفية والثقافية والروحية والأدبية.

وبالتالي، فالسؤال المركزي الذي أطرحه على أنظاركم جميعا في هذا اللقاء الفكري والعلمي الوطني هو كيف يمكننا أن ندرس الشعر في زمن كوني تحكمه وثنية تقنية، وتطبعه نماذج رياضياتية وإحصائية، ويسوده منطق السوق والتقسيم الدولي للعمل العلمي والتقني والمعرفي، والتحق به الآن الذكاء الاصطناعي بكل تداعياته ومساراته ومغامراته وآفاقه الافتراضية والتقنية الهائلة.

ولعلكم لاحظتم، ضمن أدائنا داخل المجلس، أننا أصدرنا العدد الأول من مجلتنا الجديدة (تحولات تربوية)، وخصصناه لموضوع "التربية والتكوين في سياق التحول الرقمي"، وقريبا في الطريق إن شاء الله، العدد الثاني حول موضوع "المدرسة والثقافة". كما نظمنا ندوة كبرى حول "الذكاء الاصطناعي والتعليم" وسنتبعها بدورة ثانية للمزيد من تعميق النظر والبحث والسؤال حول هذا التحول المعرفي الكبير الذي ينخرط فيه العالم المعاصر اليوم. وبالتالي، ليست هناك أي مفارقة في أن نفتح الحوار اليوم حول الشعر والشعري في منظومتنا التربوية التعليمية، ولكن هناك رؤية شمولية تراهن على تكامل الأبعاد وتداخلها بل ترابطها.

ومن هنا، أعتبر أن للشعر ضرورة، وهي من ضرورات الآداب والفنون. كما أن ضرورة الأدب من ضرورات الإنسانيات التي أضحت اليوم متجاورة مع الإنسانيات الرقمية، وكلها تنشد الارتقاء بالمادة التربوية والتعليمية، وبناء الأفراد والمجتمعات، خصوصا من حيث إثراء موارد الخيال التي تشهد بدورها تحولات وظواهر جديدة تطرح علىٰ علماء المجتمع وخبراء الثقافات الإنسانية مسؤولية تعميق البحث والسؤال.

وأخيرا، لابد أن ألح علىٰ إيلاء الاعتبار للشعر المغربي حسب مراحل نشوئه وتطوره التاريخي وتياراته ومراجعه وأجياله القديمة والمعاصرة. وأيضا، انفتاحه علىٰ مناطق شعرية جديدة لم تحظ بكامل العناية في منظومتنا التربوية والتعليمية كالشعر الإفريقي، وتجديد النظرة التعليمية المغربية على الشعر العربي وتاريخه، والعمل علىٰ تجاوز ثنائية "المركز" و"المحيط" في الفضاء الثقافي العربي.

هناك إذن ورشة كبيرة مفتوحة ينبغي أن نهتم بها، وهي المنهاج المدرسي، والتعليمات والكتاب المدرسي والحياة المدرسية، وتعددنا اللغوي والثقافي وفق التصور الموضوعي الذي نص عليه دستور بلادنا، سواء في التصدير، أو في الفصل الخامس، وكذا في عدد من المواد الدستورية الأخرى كالفصلين 25 و26 الذين يشيران بوضوح إلىٰ مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني، وتنمية الإبداع الثقافي والفني.

آمل أن تعطي هذه الندوة إشارة قوية وجادة في اتجاه الإصلاح والتجديد وبناء المستقبل.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.